Friday, December 12, 2025

59-  الطريقة التي ننظر بها إلى العالم تشكل سعادتنا


التباين بين العقل الإيجابي والعقل السلبي

كثيرًا ما يعيش الناس في العالم نفسه، ويواجهون تحديات متشابهة، ويخوضون الروتين اليومي نفسه، ومع ذلك تختلف تجاربهم اختلافًا جذريًا. لا يكمن الاختلاف في ظروفهم، بل في النظرة التي ينظرون بها إلى الحياة. فالشخص الإيجابي يرى الجمال في أدق التفاصيل - شروق الشمس، لحظة هادئة، كلمة طيبة، أو نجاح بسيط. في المقابل، غالبًا ما يرى الشخص السلبي الظلام فقط، ويركز على ما هو مفقود بدلًا من التركيز على ما هو موجود. يكشف هذا التباين حقيقة جوهرية: العقلية تُشكّل الواقع أكثر مما يُشكّل الواقع العقلية.

الشخص الإيجابي ليس من يعيش حياة مثالية أو يتجنب المصاعب، بل هو عادة واعية، وطريقة تفكير تُبرز الجوانب القيّمة في لحظات الحياة اليومية. يُقدّر هؤلاء الأشخاص النعم الصغيرة: كوب شاي دافئ، ضحكة طفل، نزهة هادئة، أو إنجاز مهمة. قد تبدو هذه الأشياء عادية، لكنها بالنسبة للعقل الإيجابي، مصادر سعادة خفية. تنبع هذه القدرة من الامتنان والوعي والتوازن العاطفي. يُدرّب الأشخاص الإيجابيون عقولهم على ملاحظة ما هو جميل، حتى عندما تكون الحياة بعيدة عن الكمال.

على النقيض من ذلك، يميل الشخص السلبي أو المتشائم إلى تضخيم المشاكل والتقليل من شأن النعم. حتى عندما تظهر لحظات سعيدة، فإنها تُطغى عليها الهموم والشكاوى والمخاوف. غالبًا ما يُفسر العقل السلبي الأحداث المحايدة على أنها تهديدات، وينظر إلى التحديات على أنها دليل على ظلم الحياة. قد يُلقي هؤلاء الأشخاص باللوم على الظروف أو الحظ أو الأشخاص المحيطين بهم في تعاستهم. يهيمن على حديثهم الداخلي عبارة "لا شيء يكفي أبدًا"، مما يستنزف طاقتهم تدريجيًا ويُغلق أمامهم باب السعادة.

يكمن أحد الفروق الرئيسية بين هذين النوعين من الأشخاص في كيفية تعاملهم مع الصعوبات. فالشخص الإيجابي يُقرّ بالألم، لكنه يبحث عن حلول ودروس مستفادة. وهو يُدرك أن النكسات مؤقتة وجزء من النمو. هذه المرونة تمنحه القوة، وتُمكّنه من التمسك بالأمل حتى في أصعب الظروف. أما الشخص السلبي، فيميل إلى الشعور بالإحباط، ويرى في كل عقبة تأكيدًا على أن الحياة ضده. وبدلًا من التعلم، يغرق في مزيد من الإحباط، مما يزيد من حدة مشاعره السلبية.

ثمة فرقٌ هامٌ آخر يتمثل في التأثير العاطفي. فالأشخاص الإيجابيون يُنشّطون من حولهم، إذ يخلق هدوؤهم وتفاؤلهم وتقديرهم لأبسط المتع جواً من السكينة. ويستمتع الناس بصحبتهم لأن وجودهم يُشعِرهم بالراحة والطمأنينة. في المقابل، غالباً ما يستنزف الأشخاص السلبيون الطاقة العاطفية، فالشكاوى المستمرة والشكوك والتوقعات السوداوية تُولّد توتراً وانزعاجاً، ما يدفع الآخرين للابتعاد. ومع مرور الوقت، قد يُعزّز هذا العزل معتقداتهم السلبية، مُشكّلاً حلقةً يصعب كسرها.

يؤثر الاختلاف بين الأشخاص الإيجابيين والسلبيين على عملية اتخاذ القرارات. فالشخص الإيجابي أكثر استعدادًا لتجربة أشياء جديدة، والمجازفة المحسوبة، والثقة بقدراته. تسمح له عقليته برؤية الإمكانيات حيث يرى الآخرون القيود. في المقابل، غالبًا ما يتجنب الشخص السلبي الفرص لأنه يتوقع الفشل. هذا التفكير القائم على الخوف يعيق نموه ويُبقيه عالقًا في أنماط التفكير نفسها.

على الرغم من هذه الاختلافات، من المهم أن نتذكر أن الإيجابية ليست فطرية، بل هي مهارة يمكن تنميتها. يستطيع أي شخص تدريب نفسه على الانتقال من التفكير السلبي إلى التفكير الإيجابي. الخطوة الأولى هي الوعي، أي ملاحظة الأفكار السلبية بدلاً من تصديقها تلقائياً. الخطوة التالية هي ممارسة الامتنان، والبحث عن لحظات الفرح الصغيرة يومياً، وتعلم استبدال النقد الذاتي بالتعاطف مع الذات. مع مرور الوقت، تُعيد هذه التغييرات الصغيرة تشكيل الحالة النفسية.

في نهاية المطاف، لا تعني الإيجابية تجاهل الواقع أو التظاهر بأن كل شيء مثالي. إنها ببساطة تعني اختيار منظور يُبرز المعنى بدلًا من الفراغ، والأمل بدلًا من الخوف، والجمال بدلًا من الظلام. تصبح الحياة أغنى عندما يتعلم العقل تقدير الأشياء البسيطة، ففيها يكمن جوهر السعادة الحقيقي. يدرك الشخص الإيجابي هذه الحقيقة بعمق، بينما يستمر الشخص السلبي في البحث عن السعادة في أماكن خاطئة.

يذكرنا التباين بين الاثنين برسالة قوية: العالم يبقى كما هو، لكن الطريقة التي ننظر بها إليه هي التي تُحدث كل الفرق.

A Harvest of Humility: Lessons from the Fields of Rural China      Spending three days working on a farm in rural China opened my eyes to th...